بسم الله الرحمان الرحيم
قد ذكرنا في أول كلامنا الليلة أن التربية الصحيحة إنما تتسنى للطفل عن طريق المربي والوالدين والبيت الذي يفتح الطفل فيه عيناه، فقد كان علي (عليه السلام) يتلقى دروس التوحيد من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) من أيام صباه ويتعلم منه العلوم الإلهية طيلة أيام كونه طفلاً ويافعاً وشاباً وخليفة، وكان يجد كل التشجيع من والده أبي طالب (عليه السلام) الذي كفل النبي من يوم وفاة عبد المطلب، ولم يبلغ النبي يومذاك من العمر ثمان سنين وأخذه إلى بيته وضمه إلى أهله وولده، وكان هو وزوجته السيدة فاطمة بنت أسد يبذلان كل ما في وسعهما في خدمة النبي والترفيه عنه حتى أنهما كانا يفضلانه على أولادهما في المطعم والملبس والعناية والخدمة، وقام أبو طالب بما قام من أنواع العطف والحنان والرعاية والاهتمام بشأن النبي والإشادة بمواهبه في السفر والحضر.
ولأبي طالب (عليه السلام) الحظ الأوفر في القيام بتزويج النبي من السيدة خديجة والقضاء على المشاغبات والمنافسات التي كادت أن تحول دون ذلك الزواج الميمون.
ومواقف أبي طالب في سبيل التحفظ على النبي والدفاع عنه والحماية له من بدء بعثته إلى آخر حياة أبي طالب، مشكورة مذكورة في تاريخ المسلمين، وإسلام أبي طالب (عليه السلام) وإيمانه بالنبي مما لا شك فيه عند كل مسلم منصف، وهذا بعض تلك البحوث الشاهدة لما نحن فيه الآن: قال ابن الأثير: إن أبا طالب رأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلياً يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره.
وفي رواية: فقام جعفر إلى جنب علي، فأحس النبي، فتقدمهما، فأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا، فانصرف أبو طالب مسروراً، وأنشأ يقول:
إن علياً وجعفـــــراً ثقتـــــي عنــد ملم الزمان والنُـوَب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا أخـــذل النبـــــي ولا يخذله من بنيَّ ذو حســب
وكان أبو طالب إذا رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البيات إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع ابنه علياً مكانه، فقال له علي ليلة: يا أبت إني مقتول.
فقال له:
اصبرنْ يا بني فالصبر أحـجى كل حي مصـيره لشعــــوب
قـــد بذلناك والبلاءُ شـــديــــد لفداء الحبيب وابـن الحبيب
لفــداء الأغــر ذي الحسب الثا قـب والباع والكريم النجيب
فأجاب علي بقوله:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمـــد ووالله مــا قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت أن تر نصرتــــــي وتعــلم أنـــــــي لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا
وقال القرطبي في تفسيره: روى أهل السير قال: كان النبي قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي (صلّى الله عليه وآله) فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: يا عم! ألا ترى إلى ما فعل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): عبد الله بن الزبعري.
فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي.
فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: عبد الله بن الزبعري، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأساء لهم القول.
وهناك أحاديث كثيرة متواترة حول إسلام أبي طالب وإيمانه، بل وكتب طائفة من العلماء والفضلاء مؤلفات واسعة قيمة حول إيمان أبي طالب أمثال كتاب أسنى المطالب، وأبو طالب مؤمن قريش، وكتاب: الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، وفي المجلد السابع من الغدير لشيخنا الأميني ما يروي الغليل.
ولسيدنا أبي طالب (عليه السلام) قصائد وأبيات في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) والاعتراف برسالته والتصديق بنبوته، وذكر الشيخ الأميني في المجلد السابع من الغدير عن بعض المؤرخين: أن الأبيات التي قالها أبو طالب في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) قد بلغت ثلاثة آلاف ونحن نقتطف أبياتاً تصرح بإيمان أبي طالب وتفانيه في نصرة النبي، فقد كتب أبو طالب أبياتاً إلى النجاشي ملك الحبشة وهي :
ليعلم خيــــار الناس أن محمــــداً وزير كموسى والمسيح بــن مريــم
أتانا بهــــدي مثـــل ما أتنا بــــه فكــل بأمـــر الله يهــــدي ويعصــم
وقال أيضاً:
ألا أبلغا عنــي علــى ذات بينــها لوَّيا وخُصّا مــــن لويِ بنـــي كعب
ألم تعلمـــوا أنا وجـــدنا محمــداً رسولاً كموسى خُطّ فـي أول الكتب
وقال أيضاً:
يرجون أن نسخـــي بقتل محمـــد ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيـــت الله حتــــى تفلقــوا جماجــم تلقــــى بالحطيــــم وزمزم
وقال يخاطب النبي:
والله لن يصلـــــوا إليك بجمعهـم حتى أوسّـــــد فــــي التراب دفينـــا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بـــذاك وقُــرّ منـــك عيونــا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحـــي ولقـــد دعـــوت وكنــت ثَــم أمينـــا
ولقـــد علمت بأن ديــــن محمــد من خيـــر أديـــان البريـــــة دينــــا
وقال يمدح النبي:
لقــــد أكرم الله النبــــي محمــــــداً فأكــــــــــــرم خلــق الله في الناس أحمـد
وشــق لــه مـــــن اسمـــه ليجلــه فــذو العرش محمود وهـذا محمــد(13)
وقال أيضاً:
كذبتم وبيــت الله نبـــزي محمــــداً ولمـــا نطاعــــن دونـــه ونناضـــل
ونسلمـــه حتـــى نصـــرّع حولـــه ونــذهــل عـــن أبنائنــا والحلائــــل
وأبيض يستسقـى الغمــام بوجهــه ثمـــال اليتامــى عصمـــة للأرامـــل
يلوذ بـــه الهُلاك مـــن آل هاشــــم فهم عنــــده فـــي رحمة وفواضــل
ألــم تعلمـــوا أن ابننـــا لا مكــــذب لــــــدينا ولا نعبــأ بقـــول الأباطـــل
فأيـــــــده رب العبـــــاد بنصــــــره وأظـــهر دينــاً حقــه غـيــر باطـــل
وقال أيضاً:
أوصــي بنصــر نبــي الخير أرـبعة ابني عـلياً وشيـــخ القـــوم عباسا
وحمـــزة الأســـد الحامــي حقيقتـه وجعفــراً أن تذودوا دونــه الناسا
كونــوا فــداءً لكم أمـي وما ولـدت فـي نصر أحمد دون الناس أتراسا
وقال أيضاً:
إن ابـــن آمنــة النبــــي محمـــــــداً عنــدي يفــــوق منــــازل الأولاد
راعيت فـيـــه قـرابـة موصـــولــــة وحفـظـت فـيــه وصيــة الأجــداد
وغير ذلك من قصائده وأبياته المفصلة المذكورة في ديوانه وسجلتها كتب التراجم والتاريخ.
أما تكفي هذه الأحاديث وهذه القصائد أن تكون وثيقة لإيمان أبي طالب وإسلامه، وهل الإسلام غير هذا؟ ولو كان جزء من هذه الآثار والمآثر لأبي قحافة والخطاب أو عفان لكانوا أول المسلمين، ولكن أبا طالب (عليه السلام) بالرغم من تلك المواقف والمواطن التي وقف بها للدفاع عن النبي والمحافظة على حياته في الشعب وقبله وبعده، وهذه الاعترافات منه بنبوة محمد ورسالته، لا تكفي للدلالة على إسلامه فيقولون: مات أبو طالب مشركاً كافراً.
فليكن كل هذا، فإن هذه الغارات التي تشن على كفيل رسول الله وناصره والمحامي عنه إنما هي لأجل ولده علي (عليه السلام) فإن القوم لم يرضوا أن تكون ساحة نسب علي (عليه السلام) منزهة عن كفر الجاهلية، ولم تطب نفوسهم أن تكون هذه المفاخر لعلي (عليه السلام) وسيعلمون غداً يوم يساقون إلى الحساب عما كتبت أيديهم.