بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على محمد وآله خير البرية.
كلامنا الليلة: حول التربية الإسلامية التي ترباها علي (عليه السلام) خلال السنوات الطوال التي قضاها مع النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره حتى بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وهي المدة التي عاش فيها مع الرسول، ولا أملك بياناً كافياً لوصف تلك التربية المدهشة، وتأثيرها في نفس علي (عليه السلام)، والأفضل أن نستمع إلى كلام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع، فإنه يشرح لنا مدى اختصاصه والتصاقه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من صغر سنه، يذكر (عليه السلام) ذلك في خطبته الجليلة المعروفة بالقاصعة.
قال (عليه السلام): (أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر.
وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرقه.
وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلّى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.
ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة؟ فقال: إنه الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك لعلى خير(1).
فقد روى العلامة الحلي عليه الرحمة في كشف اليقين وغيره...: وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لفاطمة بنت أسد ـ : اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يلي علياً أكثر تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن (يجعله في فمه) عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي ووليي، وصفيي، وذخري وكهفي وظهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائماً ويطوف به في جبال مكة وشعابها وأوديتها(2).
وذكر الثعلبي في تفسيره عن مجاهد قال: كان من نعم الله على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع الله له وزاده من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة (قحط) شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ للعباس عمه وكان أيسر بني هاشم ـ : يا عباس أخوك أبو طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت من بنيه رجلاً، فنكفيهما عنه من عياله.
قال العباس: نعم فانطلقا، حتى أتيا أبا طالب فقالا: نريد أن نخفف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال أبو طالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما.
فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبياً، واتبعه علي فآمن به وصدقه.. الخ.
وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً، فانتخبه لنفسه واصطفاه لمهم أمره، وعول عليه في سره وجهره، وهو مسارع لمرضاته موفق للسداد في جميع حالاته، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ابتداء طروق الوحي إليه، كلما هتف به هاتف أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً يخبر بذلك خديجة وعلياً (عليهما السلام) ويستسرهما هذه الحالة فكانت خديجة نثبته وتصبره، وكان علي (عليه السلام) يهنئه ويبشره ويقول له: والله يا ابن عم ما كذب عبد المطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما نسبته إليك، ولم يزل كذلك إلى أن أمر (صلّى الله عليه وآله) بالتبليغ.
فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الذكور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعمره يومئذ عشر سنين، وكانت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) تشاهد النبي يعطف ويحنو على علي (عليه السلام) ويتولى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكانت السيدة خديجة تستزيده وتزينه وتحليه وتلبسه وترسله مع جواريها، ويحمله خدمها.
وقد أجمع علماء النفس والتربية واتفقت كلمتهم على: أن جميع نفسيات الإنسان وأخلاقه وصفاته إنما هي انطباعات التربية التي تركزت في نفسه منذ صغره، بحيث يمكن لنا أن نعرف مصير الطفل ومستقبله من منهاج التربية التي قام بها الوالدان والمربي تجاه الطفل في صباه.
فالحقارة والعقد النفسية والدناءة والخمول وما شاكلها من الصفات التي تظهر في الناس إنما هي من ولائد التربية الفاسدة في باكورة حياتهم.
وكذلك شرافة النفس وعلو الهمة، وقوة الروح وما شابهها إنما هي من نتائج التربية الصحيحة في أيام الصبا.
وفي المناقب: عن أبي رافع أن النبي (صلّى الله عليه وآله)...
قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي، فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت.
فأخذ علياً (عليه السلام) فاستقى عروقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبي (صلّى الله عليه وآله) في حال حياته إلى حال وفاته، لا يقاس بسائر الناس، إذ كان (عليه السلام) في أكرم أرومة، وأطيب مغرس، والعرق الصالح ينمي والشهاب الثاقب يسري...
ولم يكن الرسول ليتولى تأديبه، ويتضمن حضانته وحسن تربيته إلا على ضربين: إما على التفرس فيه، أو بوحي من الله تعالى، فإن كان بالتفرس فلا تخطى فراسته، ولا يخيب ظنه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلى ولا حال أدل على الفضيلة والإمامة.
بناء على هذا اهتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) غاية الاهتمام وبذل ما في وسعه في تربية علي (عليه السلام) وتأديبه وتقوية نفسه وتوجيهه، وطبع غرائزه على أحسن ما يرام وتعليمه الفضائل والمكارم.
فأنتجت تلك التربية الإسلامية الفريدة في نفس علي (عليه السلام) أحسن الأثر، وتربى تحت ظل الرسول أفضل تربية، واجتمعت فيه جميع المؤهلات للصعود إلى أعلى مرقاة، فاستحق أن يجعله الله نفس النبي في آية المباهلة، وكملت فيه الكفاءة والإنسانية بجميع معنى الكلمة حتى صار أهلاً لكل منحة إلهية وعطية ربانية وصار جديراً بالولاية والخلافة، والوصية، والوراثة، وبكل عظمة وكل تقدير من الخالق والمخلوق، وكل إكبار وإعجاب من الرسول، وتجلت فيه الفتوة والشهامة، والاعتماد على النفس، والإحساس بالشخصية وعظمة النفس حينما قدم لتقبل أكبر مسؤولية في العالم، واستعد للقيام بأكبر مهمة من أقل لوازمها التضحية بكل غال ونفيس، وذلك يوم الدار أو الإنذار، وإليك الواقعة:
في أمالي الشيخ عن ابن عباس عن علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (وأنذر عشيرتك الأقربين)(3) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا علي إن الله تعالى أمرني: أن أنذر عشيرتك الأقربين.
قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك.
فاصنع لي يا علي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم أجمع وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا له، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، ولما وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جذمة من اللحم فنتفها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال: خذوا باسم الله.
فأكل القوم حتى صدروا ما لهم بشيء من طعام حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده أن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم جئتهم بذلك العسّ فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم يشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد ما سحركم صاحبكم!! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي في الغد: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي.
قال: ففعلت، ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى صدروا ما لهم به من حاجة ثم قال: اسقهم.
فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي، ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي؟
قال: فأمسك القوم، وأحجموا (سكتوا) عنها جميعاً، قال: فقمت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، فقلت: أنا ـ يا نبي الله ـ أكون وزيرك على ما بعثك الله به...
قال: فأخذ بيدي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه.
وفي رواية فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام ثلاث مرات فقام علي فبايعه ثم قال له (صلّى الله عليه وآله): ادن مني، فدنا منه ففتح فاه، ومج من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إن أجابك فملأت وجهه وفاهه بزاقاً! فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): ملأته حكماً وعلماً وفهماً(4).
وللمأمون العباسي مناظرة لطيفة ظريفة قيمة مع الفقهاء، نقتطف منها محل الحاجة: المأمون: يا إسحاق أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله رسوله؟ إسحاق: الإخلاص بالشهادة.
المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟
إسحاق: نعم.
المأمون: اقرأ ذلك في كتاب الله يقول: (والسابقون السابقون أولئك المقربون)(5) إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟
إسحاق: يا أمير المؤمنين إن علياً أسلم وهو حديث السن، لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
المأمون: أخبرني أيهما أسلم قبل؟
ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.
إسحاق: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
المأمون: فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم؟ لا يخلو من أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعاه إلى الإسلام أو يكون إلهاماً من الله؟؟ أطرق إسحاق!!
المأمون: يا إسحاق لا تقل: إلهاماً.
فتقدمه على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبرائيل عن الله تعالى.
إسحاق: أجل بل دعاه رسول الله إلى الإسلام.
المأمون: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟؟ (أطرق إسحاق)!!.
المأمون: يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلى تكلف، فإن الله قال: (وما أنا من المتكلفين)(6).
إسحاق: أجل، يا أمير المؤمنين بل دعاه بأمر الله.
المأمون: فهل من صفة الجبار (جل ذكره) أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟
إسحاق: أعوذ بالله.
المأمون: أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم قد تكلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهل يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حكم الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟؟ أترى هذا جائزاً عندك أن تنسبه إلى رسول الله؟؟
إسحاق: أعوذ بالله... الخ.
وليس هذا بأول خطوة كبيرة خطاها (عليه السلام) إلى مراقي الصعود ولا بأول موقف مشرف وقف فيه للحق، فقد دعاه الرسول قبل ذلك إلى الاعتراف له بالنبوة والتصديق له بالرسالة، وذلك يوم بعثه الله تعالى في غار حراء وانحدر متحملاً أعباء الرسالة وقصد بيت خديجة وفتحت له الباب وقالت: ما هذا النور؟ فأجابها: إنه نور النبوة، اشهدي يا خديجة بأن لا إله إلا الله وإني رسول الله.
فشهدت بذلك فكانت أول امرأة آمنت، ثم دعا علياً (عليه السلام) ليشهد له بذلك فاعترف له علي فكان أول من أسلم من الرجال.
ويمتاز إسلام علي (عليه السلام) عن بقية المسلمين في ذلك العهد فإن الذين أسلموا على يد النبي (صلّى الله عليه وآله) كان جلهم غير موحدين، بل يهوداً ونصارى ومشركين، وسبق الكفر أو الشرك إسلامهم، ولكن علياً (عليه السلام) لم تتغير فطرته التي فطره الله عليها، ولم يدنس ساحته شرك ولا كفر، بل كان موحداً وبقي على التوحيد، وازداد إيماناً بالله ويقيناً به على أثر تلك العلوم والمعارف الإلهية التي كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يزقه إياها زقاً، ولما بعث النبي بالنبوة كان علي أول من صدقه وآمن به وقام بما يتطلب ذلك التصديق والإيمان.
ولا بأس أن نذكر الشيء اليسير من الأحاديث التي تصرح بهذه الفضيلة الفريدة لعلي (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب.
ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن أبي الحديد في شرحه.
وأخذ النبي بيد علي فقال: إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر.
وقال أيضاً: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفترٍ، ولقد صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين، وأنا أول من صلى معه.
وقال أيضاً: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وقال أيضاً: أنا أول من صلى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وقال أيضاً: أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين.
وقال أيضاً: اللهم إني لا أعرف عبداً من هذه الأمة عبَدَك قبلي غير نبيك.
(قاله ثلاث مرات) ثم قال: لقد صليت قبل أن يصلي الناس.
وقال أيضاً: بُعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وقال في أبيات له:
سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وله أيضاً:
أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي بـــــــه ربيت وسبطاه هما ولدي
صدقته وجــــــــميع الناس في بُهَم من الضـــــلالة والإشراك والنكد
قال جابر: سمعت علياً ينشد بهذا ورسول الله يسمع، فتبسم رسول الله وقال: صدقت يا علي.
وكان هذا الأمر من الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين وقد روي ذلك نظماً ونثراً عن جماعة منهم يتجاوز عددهم خمسين رجلاً، تجد ذلك بالتفصيل في الجزء الثالث من الغدير لشيخنا الأميني (رحمه الله).
ولشيخنا الأميني كلام لطيف قيّم في هذا الموضوع (وكل كلامه لطيف) قال: وأما نحن فلا نقول: إنه (علياً) أول من أسلم بالمعنى الذي يحاوله ابن كثير وقومه، لأن البدأة به (الإسلام) تستدعي سبقاً من الكفر، ومتى كفر أمير المؤمنين حتى يسلم؟ ومتى أشرك حتى يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته على الحنيفية البيضاء، واحتضنه حجر الرسالة، وغذته يد النبوة، وهذبه الخلق النبوي العظيم، فلم يزل مقتصاً أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوى غير هواه، ولا نزعة غير نزعته (إلى أن قال) بل نحن نقول: إن المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلى النبي في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى ـ عن إبراهيم الخليل (عليه السلام) ـ : (وأنا أول المسلمين)(7).
وفيما قال سبحانه عنه: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)(
وفيما قال سبحانه عن موسى (عليه السلام): (وأنا أول المؤمنين)(9) وفيما قال تعالى عن نبيه الأعظم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه)(10) وفيما قال: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم)(11) وفي قوله: (وأُمرت أن أُسلم لرب العالمين)(12).
وقال ابن أبي الحديد:
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله، وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير: محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه الصلاة والسلام أول الناس اتباعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإيماناً به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون.
ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق له ذلك، وعلمه واضحاً وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب